بقلم /صبري يعقوب إيشو
إن علاقة الأنسان بالأرض هي علاقة وجودية نابعة عن علاقة كونية شاملة وتفاعل حياتي ضروري . وقد عبر الإنسان عن هذه العلاقة عبر تاريخه المديد
نظرياً وعلميا بأشكال شتى ومفاهيم متعددة وذلك وفقاً لعقليته الحضارية والثقافية الخاصة , والتأريخ مشحون بأمثلة فيها من التطرف في الرأي كما فيها من الأعتدال . فهناك من أخذ بالأنقسام والأنفصام بين الأنسان والأرض , وهناك من غيب الأنسان وحتى الأرض أحياناً في عالم فوقي هو عالم الآلهة والأجرام السماوية …
لكننا إن تأملنا في أدب وادي الرافدين بعمق , إكتشفنا نظرة منفتحة على الكون
تشد الأنسان إلى المادة , وتحلق به في الوقت نفسه إلى أسمى ما في الكون من وجود .
فإن الأدب السومري يصور لنا السماء والأرض متحدتين في الأصل إتحاداً وثيقاً
ومتماسكاً . ف (البحر الأول ) أو ( ألأله نموّ) هو في أصل السماء والأرض .
والكون هو السماء والرض معاً بهيئة جبل قاعدته في أسفل الأرض ( ألعالم السفلي) ورأسه في أعلى السماء ( ألأعلى العظيم ) .
ألسماء هي في حوزة الأله ( آن) وفيها كل شئ خالد ونفيس ومستنير و بينما في العالم السفلي تراب وظلام ولا رجعة ومقر الآلهة ( أريشكيجال) .
يتسم إنفضال ألسماء عن الأرض , وولادة الأرض بالتالي من تزاوج إله السماء بآلهة الأرض كي فيولد أنليل إله الهواء . ويلد إنليل من إله القمر ألكواكب الأخرى فيكون الضياء ويخلق اليوم الطيب ويتوفر الخصب والرخاء في الأرض.
ويلد إله الماء أنكي إله الزرع , بينما يرسل أنليل وأنكي إله الماشية وإله الغلة إلى الرض , فيتحقق الخير وتزدهر الحضارة .
وإذا ما حذفنا نظرية تعدد الآلهة التي كانت قائمة لدى قدامى شعبنا , واستبدلنا ذلك بفكرة الخلق ونظرية النشوء , نكون حيال فكر عميق وواقعية علمية , تتجلى إنسانيتها مثلاً من نص قصيدة قديمة مطلعها :
’ بعد أن إبتعدت الأرض عن السماء
بعد أن إنفصلت الأرض عن السماء
بعد أن عيّن إسم الأنسان … ( ألأساطير السومرية , كريمر ص 63
يفهم من ذلك أن تسمية الأنسان لها علاقة صميمة بانفصال الأرض عن السماء ,
والأنفصال هنا بمعنى بمعنى الولادة او النشوء . فهناك إذن علاقة كونية بين الأنسان والأرض , حتى ليمكننا القول أن الأرض هي أم الأنسان وإن الأنسان وليدها وصانعها معاً .
ويتضح دور الأنسان كذلك من أسطورة ( إيميش وإينتين) الشبيهة بقصة هابيل وقايين ألواردة في التوراة , فإن هذين الشخصين يجعلان ألشاة والمعزة تلدان , ويسببان وفرة العجول والأبقار , ويزيدان في نتاج السمن واللبن ويمكنان الطيور من بناء أعشاشها وسمك البحر من وضع البيض في الأهوار , ويجعلان ألعسل والشراب وفيرين في بستان النخيل ومزارع العنب . فالمياه هي التي تخلق الحياة وقد أوكلت الآلهة أمر المياه إلى الأنسان وإينتين أنتج كل شئ بوصفه فلاح الآلهة .
وتمضي بنا أسطورة الفأس إلى أبعاد تكشف لنا بوضوح عن تطور الأرض وما فيها بفضل العمل . وليس قليلاً أن يؤمن الفكر قبل خمسة آلاف سنة بمبدأ التطرف فنحن نقرأ :
( ألفاس والسلة تبني المدن
ألدار الثابتة الأركان بنتها الفاس …
ألدار الثابتة هي التي سببت الأزدهار …
والأنسان والطبيعة متلازمان في السراء والضراء … فإن شرور الأنسان مثلاً تسبب الطوفان الذي يبيد كل شئ كما يأتي ذلك في أسطورة الطوفان .
وحتى ألحيوانات ذاتها تنبعث من الأرض , وعلاقتها بالناس وثيقة و بحيث نراها تندب انكيدو عندما يموت , وللأنهر علاقة بالناس …
وإننا من حصيلة أدب وادي الرافدين نصل إلى نتيجة حاسمة . إنه لا قيمة للكون من دون الأنسان ولا وجود للأنسان من دون الكون . وعلاقة الأنسان بالأرض علاقة وجودية واقعية و تتجسد شيئاً فشيئاً حتى تصبح مجتمعاً ووطناً …..